الأوّل:
الضّلال في العقيدة، فَالنّاسُ ضُلال فِي حَيْرَةٍ... وَحاطِبُون فِي فتنَةٍ، وَهُم حائرونَ لأنّه حيث لا يستقر الإنسان على عقيدة أو يؤدي به الفساد العام إلى عقيدة باطلة، فإنّه يشعر بالضياع ويشعر بانعدام الهدف... إِنعدام المعنى من وجوده، يشعر بالعبث حين يواجه نفسه بسؤال: مَن أنا ؟ لماذا أنا هنا ؟ ما المعنى لوجودي ؟ ... وهكذا يمضي هذا الإنسان الضائع في التماس الجواب حيث لا جواب، لأنّه «.. بين مشبّه للّه بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره».
الثّاني:
الفساد السياسي والإجتماعي، فالناس قد أوقعتهم كبرياؤهم الّتي لا مبرّر لها في الزّلل والسّقوط الحضاري، فحملت أقوياءهم على احتقار ضعفائهم وفقرائهم... وخاصّتهم إلى الإستهانة بعامّتهم، فهانت كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، وغدا مقياس الكرامة خاضعاً لعوامل غير إنسانية: للثّروة، أو للقوة، أو للنسب، وما إليها. لقد غدا الناس - نتيجة لذلك مَللاً متفرقةً متناحرةً، لكلّ ملّة مذهب وطريق، ولكلّ فئة هوى واتجاه، ولكلّ فريق منهج وغاية، والكل مفتون برأيه، مأخوذ بهواه، يعمل على شاكلته.
والنّبوّة تعالج وجوه الفساد كلّها في الإنسان والمجتمع، في الرّوح وفي المادة، والمؤسسات لتحقق الغاية العظيمة النبيلة، وهي تكوين الإنسان المتكامل.
وقد أعلن الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هدفهم هذا على مدى التاريخ، كلّ واحد منهم في المحيط الذي بعث إليه في الزّمان الّذي كان فيه.. إلى أن ختمت النبوّة بمحمد (ص) فكان هذا الهدف العظيم بحجم امتداد الرسالة الخاتمة في الزمان والمكان على مستوى البشريّة كلّها وعلى مدى المستقبل كله... إِلى نهاية الزمان: «فبالغ (ص) في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة»... «... فهداهم به من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة».
وقد أثمر جهد الأنبياء العظيم النبيل وجهادهم ومن اتبعهم وجرى على سنتهم -
أثمر تحقيق هذا الهدف العظيم الذي هو وضع الإنسانية على طريق التكامل.
وربّما كان هذا القول مثيراً للدّهشة والتّعجب، والتّساؤل:
كيف حقّق الأنبياء الكرام هدفهم هذا ولم يؤمن بهم إِلا القليل، وأعرض عنهم أكثر الناس، بل حاربوهم ورفضوهم.. ؟
إنّ هدف النبوّة قد تحقق في كلّ عصر، وعلى عهد كلّ نبيّ في صورتين:
إحداهما: فيمن آمن بالنّبيّ وصدّق به واتبع منهاجه، فالتزم في حياته العامة والخاصة بالعقيدة والشريعة اللّتين اشتملت عليهما رسالته.
والصّورة الأخرى: تتمثّل في الجو الثّقافي والرّوحي العام الّذي اشاعته الرّسالة النّبوية في المجتمع نتيجة لتبليغ النبي وأتباعه، وللصراع الفكري والإجتماعي الّذي ولّدته الرّسالة في المجتمع، فإنّ هذا المناخ الثقافي يترك آثاره بلا شكّ على المفاهيم والمؤسسات والقيم والقناعات الّتي تسود المجتمع، ويدفع بها نحو التغيير بصورة لا شعورية، فينتقل المجتمع إلى حالة أفضل في علاقاته وقيمه ومؤسساته وحوافز العمل فيه، وإن كان أكثر هذا المجتمع كافراً برسالة النّبيّ.
ومن هنا كان الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين هم آباء الحضارة الإنسانيّة والمدنية الإنسانيّة. وما من خير بلغته وتمتعت به البشريّة في عقولها وأذواقها وقيمها ومؤسساتها وحوافز العمل من أجل التقدم المادي عندها إِلا وللأنبياء فيه فضل كبير، لأنّهم - على مدى التاريخ - أشاعوا، بما بثّوه من الوحي الإلهي في الناس، وحدة جديدة في كلّ مجتمع تنبثّ كالنّور... كالعافية فيه فتضيء، بدرجات متفاوتة، مناطق الظلمة، وتلمس - بدرجات متفاوتة - مناطق البؤس والمرض فيه. وكان تأثير هذه الروح النبويّة متفاوتاً بنسبة مقاومة قوى الشر حين تعي درجة تأثير الخير النبوي، وبقاء هذا الخير حراً في التأثير حين تغفل قوى الشرعية أو ترى لنفسها مصلحة فيه.
وهكذا، فمن هذا المنظور نفهم أنّ كلّ نبي قد هدى اللّه به الناس من الضّلالة، وأنقذهم بمكانه من الجهالة. فهم صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين آباء الإنسانية الكرام، وآباء الحضارة العظام.
وهذا نصّ آخر يضيء به الإمام جانباً آخر من جوانب وظيفة النبوّة في نطاق الهدفين العظيمين، قال عليه السّلام:
«قَد صُرِفَت نحوهُ أفئدةُ الأبرارِ، وثُنِيت إليهِ أزمَّةُ الأَبصارِ. دفنَ اللهُ بِهِ الضّغائنَ1 وأَطفأ بِهِ الثَّوائرَ2. ألَّفَ بِهِ إخواناً، وفرَّقَ بِهِ أقراناً. أعزَّ بِهِ الذِّلّةَ، وأذَلَّ بِهِ العِزَّة»3.
في هذا النّصّ كشف الإمام عن عمل النبوّة في تغيير القيم السائدة في المجتمع، هذه القيم الّتي تحكم وتوجه العلاقات داخل المجتمع بين فئاته وأفراده، وإبدالها بقيم أخرى متّسقة في طبيعتها مع طبيعة الرّسالة النبوية لأنها مستمدة منها. وما يترتب على ذلك من تغيّر في المفاهيم والقناعات، ومن تبدل في نوع العلاقات نتيجة لتبدل القيم الجاهليّة بالقيم النبويّة.
لقد ثنيت أزمّة الأبصار نحو الرّسول الأكرم (ص) كما كانت تثنى نحو كل نبيّ في مجتمعه، لأنه قد أثار اهتمام الناس كلّهم، وأوجد هزّة راحت تنداح على المجتمع كلّه وتنفذ في أعماقه. وهذه الفكرة تضيء التحليل الّذي بيّنا فيه آنفاً أنّ أثر النبوّة الخيّرة لا يقتصر على المؤمنين بالنبي ورسالته وحدهم، وإِنّما يتعداهم ليشمل ببركاته المجتمع كله.
لقد أدّت القيم الجديدة الّتي جاء بها النّبيّ إِلى تغيير المفاهيم، ومن ثمّ إِلى تغيير عميق وجذري في العلاقات الإجتماعيّة بين الأفراد والفئات، وإِلى إحداث التّبدّلات الإجتماعية.
لقد دفنت به الضغائن، لأن أسباب تولّدها قد زالت، ومن ثمّ فقد زالت أسباب تفجّرها فزالت الثوائر.
لقد نعم المجتمع كلّه بدرجة عالية من الإستقرار والطمأنينة بعد أن انخفضت إلى أدنى الدرجات مظاهر العنف والتوتر فيه نتيجة لتبدّل المفاهيم والقيم الّتي كانت