العترة بين التحذير والابتلاء:
إن الله تعالى يمتحن الناس بالناس. قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا) ( 1) فدائرة الهدى على امتداد المسيرة البشرية، فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم، فيميز بهم أهل الريب من أهل الإيمان، والمتبعون للأهواء من طلاب الحق الصابرين في طاعة
(1 ) سورة الفرقان آية 20.
الله وسلوك سبيله، وكما أن النبي (ص) أمر أمته بأن يتمسكوا بحبل العترة حتى لا يضلوا، وقال " أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي. أذكركم الله في أهل بيتي " (1) وقال " إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا. كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (2)، فإنه أخبر أمته بأنهم سيمتحنون بأهل بيته. قال " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " (3)، وأخبر بالغيب عن ربه بما سيسفر عنه الامتحان، فقال " إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا " (4).
وأخبر النبي (ص) علي بن أبي طالب. بما سيجري له من بعده، وقال له " إن الأمة ستغدر بك بعدي، وأنت تعيش على ملتي، وتقتل على سنتي، من أحبك أحبني، ومن أبغضك أبغضني، وإن هذه (يعني لحيته) ستخضب من هذا (يعني رأسه) (5)، وروي أن النبي (ص) قال له:
ألا أحدثك بأشقى الناس، رجلين، أحيمر ثمود الذي عقر الناقة، والذي يضربك يا علي على هذه (يعني رأسه) حتى تبتل منه هذه (يعني لحيته) (6).
وأخبر النبي (ص) الحسين بن علي بما سيجري له من بعده، وروى ابن كثير عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها قالت: أشهد لقد سمعت عائشة تقول: أنها سمعت رسول الله نهض يقول: يقتل الحسين بأرض
____________
(1) رواه مسلم (الصحيح 123 / 7).
(2) رواه الترمذي وحسنه (الجامع 662 / 5) والنسائي (كنز العمال 172 / 1).
(3) رواه الطبراني (كنز العمال 124 / 11).
(4) رواه الحاكم ونعيم بن حماد (كنز العمال 169 / 11).
(5) رواه أحمد والحاكم وصححه (المستدرك 142 / 3) والدارقطني والخطيب (كنز العمال 617 / 11) والبيهقي (البداية 218 / 6).
(6) قال الهيثمي رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات (الزوائد 136 / 9) و الحاكم والبيهقي بسند صحيح (المستدرك 141 / 3، البداية والنهاية 218 / 6، كنز العمال 136 / 13).
بابل (1) وروى الحاكم عن ابن عباس قال: ما كنا نشك وأهل البيت متوافرون أن الحسين يقتل بالطف (2) وروي أن النبي (ص) قال: إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق يقال لها كربلاء. فمن شهد ذلك فلينصره (3)، وقال النبي (ص): أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه (4).
والخلاصة: إن الله يختبر الناس بالناس، وعلى هذا الاختبار يظهر أهل الريب من أهل الإيمان، قال تعالى: (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة)(5)، وقال سبحانه (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا. أليس الله أعلم بالشاكرين) (6)، وقال تعالى: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض. ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم) (7)، والدعوة الخاتمة بينت الدرجات. وأمر تعالى بمودة قربى النبي (ص). قال تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (
وبينت الدعوة أن الذين لا يصلون ما أمر الله به أن يوصل، والذين لم يأخذوا بما أمرهم تعالى به من طاعة وبما نهاهم به من نهي، فهؤلاء خاسرون في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (الذين
____________
(1) البداية والنهاية 177 / 8.
(2) رواه الحاكم وقال السيوطي سنده صحيح (الخصائص / السيوطي 213 / 2).
(3) رواه البغوي وابن السكن والبارودي وابن منده وابن عساكر وأبو نعيم (البداية والنهاية 199 /
(كنز العمال 126 / 12) (الخصائص الكبرى 213 / 2) (أسد الغابة 349 / 1) (الإصابة 68 / 1).
(4) أخرجه الطبراني في الكبير والأوسط باختصار (الزوائد 188 / 9) والماوردي في أعلام النبوة بسند صحيح ص 83.
(5) سورة الفرقان آية 20.
(6) سورة الأنعام آية 53.
(7) سورة الأنعام آية 165.
(
سورة الشورى آية 23.
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)</SPAN> (1)، وقال جل شأنه (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) (2).
وبينت الدعوة الإلهية الخاتمة. أن عدم مودة الذين أمر الله بمودتهم، يفتح الطريق أمام مودة أعداء الفطرة وقد أمروا بعدم مودتهم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) (3). فالآية تنهي عن مودة المشركين والكفار وتنهي أن يتخذوا أولياء وأصدقاء وأخلاء. وتفتح الطريق أمام عبادة الأهواء والأوثان. قال تعالى حاكيا عن إبراهيم قوله لقومه (قال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا) (4) قال المفسرون: وبخهم على سوء صنيعهم في عبادة الأوثان. وقال: إنما اتخذتم هذه ليجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم بعضكم لبعض في الحياة الدنيا، ثم يوم القيامة ينعكس هذا الحال، فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضا وشنآنا، وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعين الأتباع.
فالطريق يبدأ بأمر الله ونهيه، وعلى امتداد الطريق يمتحن الله الناس ببعض الناس، فمن سلك فيما أمر الله به نجا، ومن لم يؤخذ بوصايا الله ضل، والله تعالى أمر بصلة الأرحام، وذروة الأرحام عترة
____________
(1) سورة البقرة آية 27.
(2) سورة محمد آية 23.
(3) سورة الممتحنة آية 1.
(4) سورة العنكبوت آية 25.
النبي الخاتم (ص)، قال (ص) " إن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه.
وأن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أي طالب " (1)، وقال " أن لكل بني أب عصبة ينتمون إليها إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم " (2)، وقال " نحن خير من أبنائنا، وبنونا خير من أبنائهم، وأبناء بنينا خير من أبناء أبنائهم " (3)، وهكذا فكما أن للعلم درجات، فللأرحام درجات، وميزان هذه الدرجات هو التقوى والعلم بالله، فمن التف حول الذين أمر الله بمودتهم شرب من الماء، ومن أبى فتحت عليه مودة أخرى يتهوكون فيها تهوك اليهود في الظلم، ويوم القيامة يعض على يديه، قال تعالى: (يوم يعض الظالم على يديه ويقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني. وكان الشيطان للإنسان خذولا، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) (4).
وعلى امتداد المسيرة الإسلامية. قامت طائفة الحق بالدفاع عن الفطرة، ولم يضرها من عاداها أو من خذلها، وفي عهد الإمام علي.
خرج عليه أصحاب الأهواء، فقاتلهم الإمام على تأويل القرآن، وعنه أنه قال " أمرني رسول الله (ص) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين " (5)، فالناكثين: أهل الجمل، والقاسطين: أهل الشام، والمارقين: الخوارج، وانطلقت مسيرة الإمام رضي الله عنه بأعلام الحمية، وروي أن النبي (ص) قال له " أنت أخي وأبو ولدي، تقاتل في سنتي وتبرئ ذمتي، من مات
____________
(1) رواه الطبراني عن جابر، والخطيب عن ابن عباس (كنز 600 / 11).
(2) رواه الحاكم وابن عساكر (كنز 98 / 12).
(3) رواه الطبراني (كنز 104 / 12).
(4) سورة الفرقان آية 27.
(5) رواه ابن عدي والطبراني وقال ابن كثير روي عن طرق عديدة (البداية والنهاية 334 / 7) (كنز العمال 292 / 11).
في عهدي فهو كنز الله، ومن مات في عهدك فقد قضى نحبه، ومن مات يحبك بعد موتك ختم الله له بالأمن والإيمان ما طلعت شمس أو غربت، ومن مات يبغضك مات ميتة جاهلية. وحوسب بما عمل في الإسلام " (1)، وقال (ص) " من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية، ومن فاتل تحت راية عمية. يغضب لعصبته ويقاتل لعصبته وينصر عصبته، فقتل فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها لا يتحاشى لمؤمنها ولا يفي الذي عهدها، فليس مني ولست منه " (2).
وتحت هذا الضوء انطلقت الأمة الخاتمة تحت سقف الامتحان والابتلاء، والله تعالى ينظر إلى عباده كيف يعملون. لاستحقاق الثواب والعقاب يوم القيامة.
____________
(1) رواه أبو يعلى وقال البوصيري رجاله ثقات (كنز العمال 159 / 13).
(2) رواه مسلم (كنز العمال 509 / 3) وأحمد (الفتح الرباني 52 / 23).