فكم من فكرة يتفق الجميع على حسنها ومن يفعلها قليل، وكم من فعل يعترف بقبحه الكلّ والمجتنب له أقلّ من القليل.
ولذا أراد القرآن الكريم أن يحرّك في الناس شيئاً أكثر من بيان حرمة الغيبة، فحرّك خيال العبد إلى أن جعله يعيش صورة مقززة ينبغي أن يتذكرها كلّما همّ بغيبة الآخرين.
فصوّر القران الكريم الغيبة بأكل الأخ فيكون من أكلة لحوم البشر من ناحية، وأنّه يفقد كلّ إحساس بالعاطفة بعد فقده لشعوره الإنساني، حتّى لأخيه، فيقدم على أكله.
قال تعالى:{ ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إنّ بعض الظن اثم ولاتجسسوا ولايغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا اللّه إنّ اللّه توّاب رحيم(1)}.
ومن هنا جاءت تسمية هذا الكُتيّب باسم " أكل لحوم البشر " لعلّ في هذا رادع عن هذا الفعل الشنيع، وتحريك للشعور والإحساس الّذين قلّ من يتحلّى بهما في زماننا هذا.
فأرجو من اللّه سبحانه وتعالى أن أكون قد وفّقت للغرض الّذي من أجله دوّنت هذه الرسالة، وأسأله تعالى أن يحفّها بعنايته ويستفيد منها المؤمنون، فتكون لي من العلم الّذي ينتفع به، الّذي هو خير مايتركه العبد في دنياه لآخرته، وأفضل بصمات يتركها شاهدة له، بل هو أفضل من دماء الشهداء كما ورد في الحديث أنّ مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء.
وأسأل اللّه سبحانه وتعالى للقارئ العزيز أن يرزقه التوفيق والتسديد للعمل بهذه الرسالة، الّتي هي من العمل الصالح، فيكون ممن علم وعمل.
-
ـــــــــــــــــــــ
تمهيد
إنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد للبشر أن يسودهم الأمن والأمان والمحبة والمودة والإلفة والرحمة بينهم، وأفصح عن ذلك في آيات عدّة منها:
__________
(1) الحجرات 49\12 .[b][size=25]قوله تعالى: { واعتصموا بحبل اللّه جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النّار فأنقذكم منها كذلك يبيّن اللّه لكم آياته لعلّكم تهتدون(1)}.
وقال تعالى: { وألّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ اللّه ألّف بينهم إنّه عزيز حكيم(2)}.
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة الّتي جاءت داعية للمّ الشمل والاعتصام بحبل اللّه والتمسك بالعروة الوثقى الّتي لا انفصام لها.
فكان النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) كما ربّاه ربُّه وأراده، وعمل على ذلك مع المؤمنين، فلمّ شملهم ووحّد كلمتهم، ونظّم أمرهم وسار بهم نحو خالقهم، واستلّ من نفوسهم سخائنها، ومن قلوبهم ضغائنها، فتحوّلت تلك القسوة الّتي في قلوبهم إلى رحمة، وأصبحوا رحماء بينهم أشداء على أعدائهم كما وصف المخلصين منهم بقوله سبحانه وتعالى:{ محمد رسول اللّه والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم(3)}.
ولقد بشّرنا أهل بيت النبوة (عليهم السلام) بما للمتحابّين في اللّه سبحانه وتعالى من عظيم المنزلة والقربى، فروى عنهم ابو بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ المتحابين في اللّه يوم القيامة على منابر من نور قد أضاء نور أجسادهم ونور منابرهم كلّ شئ حتّى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابون في اللّه(4).
__________
(1) سورة آل عمران 3\103 .
(2) سورة الأنفال 8\63 .
(3) سورة الفتح 48\29 .
(4) البحار ج74 ص399 ب28 ح35 .[b][size=25]وما أجمل الحبّ في اللّه وما اعظم ثوابه فلقد روي عن النبي محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) انه قال: المتحابون في اللّه عزّ وجل على أعمدة من ياقوت أحمر في الجنة يشرفون على أهل الجنة، فاذا اطّلع أحدهم ملأ حسنه بيوت أهل الجنة، فيقول أهل الجنة: اخرجوا ننظر المتحابّين في اللّه عزّ وجل، قال: فيخرجون فينظرون اليهم، أحدهم وجهه مثل القمر في ليلة البدر، على جباههم: هؤلاء المتحابون في اللّه ـ عزّ وجل ـ(1).
حتى جعل شرط الايمان ان تحب لأخيك كما تحب لنفسك وان من حقه حفظه في غيبته ونصرته والستر عليه كما روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) انه قال: أحبب أخاك المسلم وأحبب له ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك، إذا احتجت فسله، واذا سألك فاعطه، ولا تدّخر عنه خيرا فإنه لايدخره عنك، كن له ظهراً فإنه لك ظهر، ان غاب فاحفظه في غيبته، وإن شهد فزره، وأجلّه وأكرمه فإنه منك وأنت منه، وإن كان عليك عاتبا فلا تفارقه حتّى تسل سخيمته (أي تذهب غضبه) وما في نفسه، وإذا أصابه خير فاحمد اللّه عليه، وان ابتلي فاعضده وتمحّل له(2).
-
ـــــــــــــــــــــــ
الغيبة
مع كل الذي مرّ عليك وقرأناه وما لم نقرأه وهو كثير جدّاً وهو الحالة الصحّية للمجتمع التي ينبغي أن تسوده نجد أنّ المرض الاخلاقي القاتل المسمى بالغيبة مرض منتشر جدّاً في مجتمعنا مع علمنا جميعا بخطورتها بل هي من أخطر الأمراض وأفتكها بالمجتمع، فهي داعية للتفكك والشّحناء والحقد والحسد والنزاع بين أفراد المجتمع الواحد الّذي أراد اللّه سبحانه وتعالى له خلاف ذلك حتّى اعتبرها الشّرع المقدّس من الكبائر.
__________
(1) البحار ج74 ص399 ب28 ح37 .
(2) البحار ج74 ص 222 ب15 ح5 .[b][size=25]فلنبدأ معاً بمعالجة ومحاربة هذه الظاهرة والسعي جاهدين للقضاء عليها مبتدئين بأنفسنا حتّى تكون كلمتنا مؤثّرة ومطابقة لأفعالنا قال تعالى :{ إنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم(1)}.
فعلينا أن نرسم الطريق القويم الواضح، الّذي بيّنه لنا الشرع المقدّس حتّى نتغلب عليها.
فندرج ذلك في نقاط سبع وهي:
1ـ تعريفها.
2ـ احكامها.
3ـ أسبابها.
4ـ عقابها.
5ـ آثارها.
6ـ كفارتها.
7ـ علاجها.
أوّلاً: تعريفها:
لكي نعالج أي مرض لابدّ من معرفته أوّلاً، فقد عرّفها النبي محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قائلاً مخاطباً أصحابه: هل تدرون ما الغيبة؟ فقالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره . قيل له: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ماتقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه(2).
ولذا قال فقهاؤنا رضوان اللّه عليهم في تعريفها كما في منهاج الصالحين : الغيبة هي أن تذكر المؤمن بعيب في غيبته وهذا يشمل موارد وهي:
1 ـ سواء قصد الانتقاص أم لم يقصد، فلو ذكرت أخاك المؤمن ووصفته بكونه صاحب الشامة العظيمة في صدره مثلا من دون قصد للإنتقاص مع ذلك هو غيبة محرّمة.
2 ـ سواء كان العيب في بدنه (كصاحب السّاق الدقيقة)، أم في نسبه (كابن الأعرج)، أم في خلقه (كقليل الاحترام للآخرين)، أم في فعله (كضعيف التدريس)، أم في قوله (مثل إنّه لايجيد الإعراب)، أم في دينه (كقليل العبادة) أم في دنياه (كالمعدم الّذي لامال لديه المحتاج لغيره).
3 ـ الغيبة تشمل القول كما تقدم و الفعل الحاكي تقليداً لفعل المغتاب وتمثيلاً لفعله أو قوله.
ولاتتحقق الغيبة إلاّ إذا كان هناك شخص يسمع الغيبة قد قصد إفهامه وإعلامه، فلو تحدّث الشخص بينه وبين نفسه أو مع من لايفهم لغته فلايعدّ غيبة.
__________
(1) سورة الرعد 13\11 .
(2) البحار ج75 ص222 ب66 ح1 .[b][size=25]وأيضا لابد في الغيبة من التعيين فلو قال: واحد من أهل البلد الفلانية، ولم تقم قرائن تدل على شخص معيّن فلا يعد غيبة.
كما لاتتحقق بالنسبة للعيب الغير مستور فقد روي عن الإمام الكاظم (عليه السلام) انّه قال: من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه مما عرفه النّاس لم يغتبه، ومن ذكره من خلفه بما هو فيه مما لايعرفه النّاس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته(1).
والمراد أنّك إذا ذكرته بما فيه وكان مؤذيا له فهو ليس بحرام من جهة كونه غيبة بل هو حرام من جهة كونه إيذاءً، أمّا لو ذكرته بما فيه من العيب الظاهر ولم يكن إيذاءً فلا حرمة.
وهناك أساليب متنوعة للغيبة قد يقع فيها المؤمن فعليه الحذر الشديد، ومن ذلك التعريض بالغير فعندما يذكر شخص يقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بحب الرئاسة معرّضا بأن المذكور ممن ابتلي بحب الرئاسة، أو يقول أعوذ باللّه من طلب الرئاسة، أو يظهر التعجب عند ذكر المؤمن بفعل خير، فكأنّما يريد أن يقول: ليس من شأن هذا أن يفعل خيراً، وغير ذلك مما لايخفى على المؤمن الفطن الذي يريد صلاح نفسه وإصلاحها . نسأله تعالى التسديد في القول والعمل، إنّه سميع مجيب.
ـــــــــــــــــــــ
ثانياً: أحكامها(2):
لاإشكال في أنّها من المحرّمات، بل هي من الضروريات الّتي قام إجماع جميع المسلمين على تحريمها، وورد النصّ الصريح في القرآن الكريم على وجوب الإجتناب عنها.
قال تعالى : { ياأيُّها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظّن إنّ بعض الظّن إثم ولاتجسسوا ولايغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا اللّه إنّ اللّه توّاب رحيم(3)}.
__________
(1) الكافي ج2 ص358 ح6 .
(2) مجمل الأحكام هنا نقلناها بتصرف من منهاج الصالحين لآية اللّه السيد محمد الروحاني دام ظله.
(3) الحجرات 49\12 .